لقرون، ارتبطت العلوم بالقوالب النمطية ارتباطًا وثيقًا. والجدول الدوري عبارة عن مجموعة من القوالب النمطية لسلوك ذرات العناصر؛ فبعضها أكثر تفاعلًا من الآخر، ويرجع ذلك إلى مكان وجودها في الجدول. وبالرغم من أن القوالب النمطية مثل تلك التي في الجدول الدوري مقبولة في العلوم، فإن التحيز ضد الإناث والمجموعات غير الممثلة تمثيلًا كافيًا في العلوم ليس كذلك. اكتشف العالم الروسي دميتري منديليف النظام الدوري في عام 1869، إلا أن العلماء صنفوا العناصر وتنبأوا بها قبل اكتشاف منديليف وبعده، وعمل كثيرون غيرهم على التوصل لهذه المواد وتفسيرها. وقد شاركت الإناث بفعالية في استكمال الجدول الدوري كما نعرفه الآن.
ولدت إيدا نوداك يوم 25 فبراير 1896 في ألمانيا، وقد كانت إحدى النساء الرائدات في دراسة الكيمياء والحصول على درجة الدكتوراه. فقد اشتهرت باكتشافها لعنصر الرينيوم بالتعاون مع زوجها والتر نوداك وكذلك أوتو بيرج؛ حيث افترضوا أن العنصر رقم 75 المفقود يجب أن تكون خصائصه مشابهة لجيرانه الأفقيين - الموليبدينوم وليس المنجنيز - وهو الاعتقاد الذي كان سائدًا حينذاك.
في يونية 1925، اكتشف العلماء الثلاثة عنصر الرينيوم وقاموا بتسميته بهذا الاسم تيمنًا بنهر الراين. شغل هذا العنصر الجديد أحد المكانين الشاغرين في ذلك الوقت في الجدول الدوري أسفل عنصر المنجنيز. ويعد الرينيوم أحد العناصر النادرة في القشرة الأرضية، ويمكن العثور عليه اليوم في السبائك المعدنية التي تستخدم لبناء محركات الطائرات.
كذلك حاول الفريق ملء المكان الشاغر الآخر فوق عنصر الرينيوم، وزعموا أنهم اكتشفوه؛ ولكن النتائج التجريبية لم تكن مثمرة فرفضت. وعلى الرغم من خيبة الأمل، واصلت نوداك دراسة الكيمياء، فتحدت نظرية شهيرة لإنريكو فيرمي في ذلك الوقت، وزعمت أنه يمكن تقسيم العناصر إلى أجزاء أصغر، إلا أن حجتها افتقرت إلى الدليل التجريبي. مع ذلك، وبمرور الوقت، تم إثبات صحة مزاعمها، وأصبح المفهوم الذي اقترحته حينذاك يعرف لاحقًا باسم الانشطار النووي؛ فعرفت نوداك بأنها مؤسسة هذا الفرع من الكيمياء.
سارت الفيزيائية النمساوية ليز مايتنر على خطى إيدا في مجال تجارب الانصهار النووي؛ فكانت عضوًا في الفريق الذي فحص البيانات التجريبية عن الانصهار النووي، التي عُثر عليها مسبقًا، وساعدت أفكارها وحساباتها في تشكيل نظرية الانشطار النووي كما نعرفها اليوم. فمن خلال التجربة، أثبتت هي وفريقها أنه يمكن تقسيم النواة الذرية إلى نوى أصغر، وقد نُشرت هذه النتائج في عام 1939؛ ولكن مع الأسف دون ذكر اسم مايتنر.
في عام 1944، فاز الفريق بجائزة نوبل في الكيمياء، ومن المثير للدهشة أن أوتو هان، الفائز الوحيد بالجائزة، لم يذكر إسهام مايتنر في الاكتشاف، على الرغم من أن حساباتها كانت السبب وراء اكتشاف الظاهرة. وتكريمًا لإسهامها في العلوم الإشعاعية، سُمي عنصر تم اكتشافه لاحقًا باسم مايتنريوم.
في عام 1897، كانت ماري كوري تستكشف النشاط الإشعاعي للحصول على درجة الدكتوراه في أشعة اليورانيوم، ولكنها لم تدرك حينها أن دراستها ستؤدي إلى اكتشاف عنصر جديد في الجدول الدوري. فقد اكتشفت معدنًا ذا نشاط إشعاعي قوي جدًّا لم تستطع تفسيره باليورانيوم فقط. هذا الاكتشاف جعلها تشتبه في وجود عناصر أخرى؛ فطلبت مساعدة زوجها وحددا معًا الخطوط الطيفية لعنصرين جديدين: الراديوم والبولونيوم. فأمضوا أكثر من ثلاث سنوات في طحن، وإذابة، وغلي، وترشيح، وبلورة أطنان من المعدن لاستخراج 0.1 جرام من مركب الراديوم.
في عام 1911، فازت ماري كوري بجائزة نوبل لاكتشافها البولونيوم والراديوم، ولعزل الراديوم ودراسته. حاليًّا، يستخدم البولونيوم في إطلاق عديد من المركبات والمستكشفات الفضائية التي تستخدم في المهمات الاستكشافية في الفضاء الخارجي. فعندما يتحلل العنصر، تصل درجة حرارته إلى نحو 500 درجة مئوية؛ لذلك يستخدم مصدرًا للطاقة في تكنولوجيا الفضاء. ونتيجة لإسهاماتها في مجال الكيمياء وتكريمًا لإرثها، أطلق العلماء على عنصر مشع آخر اكتشف بعد سنوات من وفاتها اسم كوريوم.
عندما طُرح الجدول الدوري في بادئ الأمر في عام 1869، ترك منديليف أماكن شاغرة للعناصر التي لمَّا يتم اكتشافها بعد، ولكن من المتوقع وجودها. وقد ملأت مارجريت بيري أحد هذه الأماكن في عام 1939 بعنصر مشع جديد أطلقت عليه اسم فرانسيوم تكريمًا لموطنها الأم: فرنسا. يصعب تحديد عمر العناصر المشعة؛ لأنها غير مستقرة للغاية والعملية جزافية. عوضًا عن ذلك، يمكن للعلماء تقدير نصف عمر العنصر، وهو الوقت الذي يستغرقه النشاط الإشعاعي للعنصر لتنخفض قيمته الأصلية إلى النصف. عنصر الفرانسيوم مشع للغاية حتى إن نصف عمره لا يتجاوز 22 دقيقة، وهو العنصر الوحيد الذي اكتشفته عالمة دون مساعدة أي رجل. إلى جانب ذلك، كانت بيري أول امرأة تتولى منصب رئيس قسم الكيمياء النووية في جامعة ستراسبورغ، وأول امرأة يتم انتخابها عضوًا مراسلًا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم. وللأسف، مثلها مثل قرنائها من العاملين مع العناصر المشعة من قبل، توفيت بيرى إثر التعرض للإشعاع.
لا تقتصر مساهمات الإناث في الكيمياء والجدول الدوري على القرون الماضية فقط؛ فتتواصل أبحاثهن وتجاربهن لتبهر المجتمع العلمي. في عام 2016، اكتشفت الكيميائية دون شونيسي وفريقها في ولاية كاليفورنيا، بالتعاون مع المعهد المشترك للبحوث النووية بدوبنا في روسيا، ثلاثة عناصر جديدة في الجدول الدوري بأرقام ذرية 115 و117 و118. صنفت العناصر الثلاثة بأنها «فائقة الثقل»، وقد تم تكوينها باستخدام مسرعات الجسيمات لإطلاق أشعة النوى على نوى أخرى أثقل مستهدفة.
استفادت شونيسي من التقدم التكنولوجي في مجال الإلكترونيات والمجسات في تجاربها؛ فذكرت أنه بدون هذه التقنيات لم تكن لتستطيع استكمال تجاربها. تظهر بعض العناصر «فائقة الثقل» المكتشفة حديثًا لمدة تقل عن ألف من الثانية؛ فأوضحت شونيسي أنه «يتم تكوين عنصر جديد من خلال دمج عنصرين أخف وزنًا معًا». «نحن لا نرى العنصر الحقيقي لأن عمره قصير للغاية، ولكننا نرى جزيئات الانحلال الإشعاعي الخاصة به؛ فيمكننا بعد ذلك ربط تلك العناصر مرة أخرى بالعنصر الأصلي الذي قمنا بتكوينه».
أبدت شونيسي اهتمامها بعلم الكيمياء في المرحلة الثانوية، وحصلت على البكالوريوس والدكتوراه في الكيمياء النووية من جامعة كاليفورنيا ببيركلي. حاليًّا، شونيسي هي الباحث الرئيسي في مختبر لورنس ليفرمور الوطني.
أظهرت الإناث اهتمامًا بالغًا بعلم بالكيمياء عبر التاريخ. فعلى الرغم من التمييز ضدهن وتهميشهن تاريخيًّا، فإن وجودهن متأصل بشدة في كل مجال علمي، حتى عندما كانت إسهاماتهن غير مرئية أو متخفية وراء عبارات مثل «وزملاء» أو «وشركاء العمل». خلال هذا العام الاحتفالي بالجدول الدوري، دعونا نتذكر ونحتفِ بالعالمات الإناث اللائي ساهمن في تشكيله، وفي اكتشاف العناصر التي تعود بالنفع علينا جميعًا رجالًا ونساءً. من الضروري الاعتراف بمساهمات جميع العلماء بغض النظر عن جنسهم أو أي عامل تمييزي آخر؛ فهذا هو السبيل الوحيد نحو مستقبل أفضل ومستدام.
المراجع
ansnuclearcafe.org
bigthink.com
iupac.org
nature.com
physicsworld.com
sciencehistory.org
shethoughtit.ilcml.com
thenakedscientists.com
verilymag.com
*المقال منشور بمجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2019.