على مدار الذاكرة المعاصرة، لم يكن لأي مرض تأثير هائل في كل البشر مثل كوفيد-19. فبينما تظهر الأمراض وتختفي، ظهرت أمراض أخرى ولم تختفِ وبقيت معنا، فإن ما يشترك فيه عديد من هذه الأمراض والأمراض التي تجتاح البشر حاليًّا هو أنها حيوانية المنشأ. عد كثيرون الخفاش الجاني لما يحدث في العالم، وتداول عدد لا يحصى من الصور المركبة (الميمات) عبر الإنترنت هذه الفكرة ساخرًا منها؛ ومع ذلك، فإن هذا التهاون بالموضوع يضر الجميع. من المهم أن يفهم الناس التداعيات الكبرى لهذا الموضوع، التي أدت إلى ظهور الأوبئة الحالية والسابقة.
إن علاقتنا بالطبيعة أمر نحتاج إلى فحصه لفهم الحقيقة وراء هذه الأوبئة. غالبًا ما نقسم القضايا البيئية وننظر إليها بموقف منفصل. على سبيل المثال، فإن حرق الغابات في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، الذي ينتج عنه تدمير التنوع الحيوي والنظم البيئية، لا يهم الناس هنا في مصر. مع ذلك، فهذا ليس صحيحًا؛ فما يحدث في أحد أركان الكرة الأرضية سيتردد صداه في كل أنحاء العالم. فكر في الأمر على أنه مثل تأثير قطع الدومينو.
عادة ما يكون لمسببات الأمراض سمعة سيئة؛ فهي معروفة بأنها السبب وراء الأمراض المعدية، كما أنها تعطي الكائنات الحية التي تحملها سمعة سيئة. وبالرغم من هذا، فليس لها دائمًا تأثير ضار وهي مهمة في الحفاظ على التنوع الحيوي والنظم البيئية. وبينما يمكن لمسببات الأمراض أن تكون ضارة لبعض المضيفين، قد تكون مفيدة أيضًا لآخرين. إنها رقصة محكمة تحدث في الطبيعة؛ فتنشأ المشكلات عندما يتدخل البشر في ذلك ويدعسون الطبيعة.
يُعتقد أن خطر تفشي الأمراض يزداد في المناطق الاستوائية، حيث تغيرت الغابات والمناطق الطبيعية، تلك التي لم تمس من قبل وغنية بالتنوع الحيوي. يمكن أن تشمل الأنشطة البشرية التي تغير الطبيعة: إنشاء المستوطنات، وتربية الماشية، واستخراج النفط والغاز، وقطع الأشجار، والتعدين، أو تطوير المزارع. عند حدوث هذه الأنشطة، تُظهر فقدان التنوع الحيوي، فضلًا عن زيادة احتكاك البشر بالحياة البرية. وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة فرص انتشار المرض، وهذا ما يحدث بالفعل.
ليست كل مسببات الأمراض قادرة على التسبب في الأوبئة؛ فيمكن لبعضها أن ينقل الأمراض من الحيوانات إلى البشر، ولكن ينتهي الوباء عند هذا الحد، مثل داء الكلب. ويمكن أن ينتقل بعض آخر من الحيوان، ولكنه يعيش ويزدهر بين البشر من خلال انتقال العدوى من إنسان إلى آخر. وبالرغم من أن بعض الفيروسات كان موجودًا بشكل غير ضار وتطور مع الحيوانات المضيفة له في الطبيعة، يكمن التهديد في أن يصبح البشر مضيفين لهذه الفيروسات غير الضارة سابقًا. هذا قد يحدث من خلال تدمير الموائل الطبيعية والتعامل مع الحياة البرية واستهلاكها؛ مما يفسح المجال لعواقب لا يمكن التنبؤ بها. قد تكون بعض مسببات الأمراض غير ضارة في الحيوانات، ولكن يمكنه أن تتحول إلى أمراض مميتة في الإنسان.
يُعد التحضر أحد العوامل التي تؤدي إلى إزالة الغابات وفقدان التنوع الحيوي. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من خمسة مليارات شخص سيعيشون في مناطق حضرية بحلول عام 2030؛ ومن المتوقع أن تتضاعف مساحات الأراضي المخصصة للتحضر مقارنة ببداية هذه الألفية. من المتوقع أن يكون عديد من هذه المناطق الحضرية الجديدة في جنوب الكرة الأرضية. وفي عدد من المناطق النامية ومع قلة الموارد المتاحة، قد تكون تداعيات هذه التوسعات مشكلة.
في عام 2015، نشرت منظمة الصحة العالمية إصدار «ربط الأولويات العالمية: التنوع الحيوي وصحة الإنسان: مراجعة حالة المعرفة» حيث ذُكر أن «الديموغرافيا الحضرية تقدم اتجاهات اجتماعية واقتصادية متغيرة، مع عدد هائل من السكان على مستوى العالم (≥ 800 مليون شخص) يقيمون في الأحياء العشوائية في المناطق الحضرية، مع محدودية الوصول إلى الموارد المستدامة والصرف الصحي». وتمثل صعوبة الوصول إلى الغذاء والنظافة الصحية مشكلة؛ فالنظافة الصحية ليست المفتاح الرئيسي للسيطرة على تفشي الأمراض والوقاية منها فحسب، ولكن في المناطق النائية حيث يوجد نقص في الإمدادات المحلية للغذاء، يميل الناس إلى اللجوء إلى الصيد واستهلاك الحياة البرية. هذا الأمر يزيد خطر انتشار الأمراض حيوانية المنشأ؛ بسبب طبيعة المناطق الحضرية.
Indian Flying Fox Roosting near Bananas. Credit: Rajib Islam/www.eurekalert.org
سبب آخر وراء إزالة الغابات هو إنشاء المراعي لرعي الماشية وزراعة محاصيل العلف. تقع بعض هذه المناطق على أطراف الغابات أو الأراضي الرطبة حيث توجد فرصة هائلة للتواصل بين حيوانات المزارع وعمال المزارع والحياة البرية. فتُعد ظروف بعض الإنتاج الحيواني بيئة مثالية لانتشار المرض.
قد رأينا بالفعل أحداثًا عديدة كانت تتطلب إعدام الماشية لمنع انتشار الأمراض الخارجة عن إرادتنا. ووفقًا لمنشور منظمة الصحة العالمية، يرجع ذلك إلى «الكثافة الحيوانية العالية، وأماكن المعيشة المحصورة، واستخدام مضادات الميكروبات» التي ساعدت على «الانتشار السريع للعوامل المسببة للمرض وتطورها، خاصة بين السلالات المتشابهة وراثيًّا أو الحيوانات التي تعاني ضعف المناعة». وبسبب دور التربية المكثفة للماشية المحتمل كمضيف وسيط لانتقال الأمراض حيوانية المنشأ من الحياة البرية إلى البشر، يجب دراسة مواقعها بعناية.
وجدت بالفعل حالات حدثت فيها هذه السلسلة المؤسفة من الأحداث عندما انتقل فيروس نيباه من الخفافيش إلى خنازير المزارع ومن ثمَّ إلى البشر. وتُعد خفافيش الفاكهة من عائلة الوطواطيات المضيف الطبيعي لفيروس نيباه. وفي عام 1998، بدأ أول تفشٍّ حقيقي للوباء في ماليزيا، ولكن عام 1997 كان بداية سلسلة الأحداث الحقيقية.
في إندونيسيا وهي الدولة المجاورة لماليزيا، حُرقت مساحة كبيرة من الغابات المطيرة لتوفير مساحات للزراعة. لم تعد الخفافيش التي تعيش في هذه المنطقة تعثر على طعام لها؛ لأن الأشجار لم تعد تنتج الفواكه التي كانت تتغذى عليها. وأدى ذلك إلى هجرة بعض الخفافيش إلى ماليزيا حيث استقر بعضها في الحدائق القريبة من مزرعة الخنازير. وبعد فترة وجيزة، بدأت الخنازير التي تعيش في هذه المنطقة تمرض، وفي عام 1998، تفشى فيروس نيباه بين البشر. ينص منشور منظمة الصحة العالمية على أن «العدوى بين البشر نتجت عن التواصل المباشر مع الخنازير المريضة أو أنسجتها الملوثة. ويُعتقد أن انتقال العدوى قد حدث من خلال التعرض المباشر لإفرازات الخنازير، أو أنسجة الحيوان المريض». (ربط الأولويات العالمية) منذ تفشي ذلك المرض لأول مرة، حدثت حالات أخرى في أماكن مثل بنجلاديش، والهند، وسنغافورة.
يُعتقد أن الفيروس انتقل من الخفافيش إلى الخنازير عن طريق استهلاك الفاكهة الملوثة بلعاب الخفافيش من شجرة الفواكه. ونظرًا لطبيعة ظروف مزرعة الخنازير – حيث تتكدس أعداد كبيرة من الخنازير معًا – فقد شكلت ظروفًا مثالية لانتقال المرض من الخنازير إلى البشر الذين يعملون عن قرب مع الخنازير لرعايتها. أدى ذلك إلى التهاب الدماغ وأمراض الجهاز التنفسي في البشر؛ مما تسبب في أكثر من مئة حالة وفاة. تدرج منظمة الصحة العالمية فيروس نيباه حاليًّا من بين أهم عشرة فيروسات من حيث الأولوية للبحث نظرًا لاحتمال انتشاره الوبائي.
من الجاني؟
يبدو أن الخفافيش مخزن للفيروسات القاتلة، ولكن إذا تحققنا من سبب استمرار انتشار الأمراض، فذلك إما بسبب نزوح الخفافيش من موائلها الطبيعية في الغابات الغنية، وإما بسبب صيدها حتى انتهى بها الأمر في أسواق بيع اللحوم. في كلتا الحالتين، التدخل البشري وسوء إدارة البيئة هما الجناة. تُعد هذه الحيوانات مهمة للغاية للنظام البيئي؛ لأنها تساعد على تلقيح أكثر من 500 نوع من النباتات، بالإضافة إلى إبقاء مجموعات الحشرات تحت السيطرة، والتي بدورها تؤدي دورًا مهمًّا في مكافحة الأمراض. فعلى سبيل المثال، هي تأكل الباعوض، الأمر الذي يساعد على تقليل انتشار الملاريا. ونتيجة سوء تعاملنا، ينتهي الأمر إلى إحداث أضرار جسيمة؛ ليس لصحة الإنسان فقط، ولكن تفشي الأمراض يسبب أضرارًا اقتصادية أيضًا.
تشير التقديرات أن «تفشي فيروس نيباه قد تسبب في خسائر تصل إلى 550-650 مليون دولار أمريكي في جنوب شرق آسيا، بما في ذلك التكاليف المكبدة لتدابير المكافحة المرض، والتأثير الاقتصادي في تجارة الخنازير، وفقدان الوظائف، وذلك وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (ربط الأولويات العالمية). لم يكن فيروس نيباه الفيروس الوحيد الذي كلفنا كثيرًا من المال؛ فكل مرة يتفشى فيها أي مرض يكون هناك تأثير ضار كبير في صحة اقتصادنا. بدءًا بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية مرورًا بسارس، وزيكا، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وبالتأكيد كوفيد-19، كل هذه الأمراض كان لها تأثير مالي كبير.
وفي مقال على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، صرح جيريمي شواب أن الباحثين قدَّروا أن «محاولات الحدِّ من انتقال الأمراض الجديدة من الغابات الاستوائية ستكلف على الصعيد العالمي ما بين 22.2 و30.7 مليار دولار أمريكي سنويًّا» و«من المحتمل أن تنتهي جائحة كوفيد-19 بمصاريف تتراوح من 8.1 إلى 15.8 تريليون دولار أمريكي على مستوى العالم؛ وهو ما يقرب من 500 ضعف تكلفة ما قد يتطلبه الاستثمار في التدابير الوقائية المقترحة». لذلك وبدون تفكير علينا أن نعطي التدابير الوقائية الأولوية بدءًا من الآن لتجنب كارثة عالمية أخرى، مثل تلك التي نعيشها الآن! إنها مسألة وقت فحسب حتى يأتي مرض جديد ويسرق الأضواء، ويضيف شواب «كل عام، من المتوقع أن ينتقل فيروسان جديدان من الحيوانات إلى البشر».
كذلك قال أندي ماكدونالد، عالم بيئة الأمراض في معهد أبحاث الأرض بجامعة كاليفورنيا، سانتا باربارا: «من المؤكد أن إزالة الغابات يمكن أن تكون محركًا قويًّا لانتقال الأمراض المعدية... إنها لعبة أرقام: كلما زاد تدهورنا وتخلصنا من موائل الغابات، زاد احتمال أننا سنواجه هذه المواقف حيث تنتشر أمراض معدية».
ومع أهمية التدابير الوقائية، مثل إبطاء إزالة الغابات ووضع حدٍّ لتجارة واستهلاك الحياة البرية، فإنها لن تنجح ما لم يُنظر في القضية كلها. يجب أن تكون أي خطة شمولية؛ فيجب أن تتضمن اعتبارات حول الأسباب وراء إزالة الغابات في المقام الأول. توجد عوامل اقتصادية وثقافية تؤدي دورها؛ إذ يعتمد عديد من الناس على صيد الحيوانات البرية والاتجار فيها لتوفير معيشة جيدة. يجب وضع تلك القضايا في الاعتبار في أي خطة وقائية تضعها الحكومات والمجتمع الدولي حتى يكون لها تأثير دائم ومفيد.
أظهرت لنا الطبيعة مرارًا وتكرارًا مدى الترابط بيننا جميعًا؛ فكيف انتقلنا من المريض صفر في الصين إلى أن أصبح العالم كله فجأة في حالة إغلاق، يجب أن يكون مثالًا مؤثرًا في ذلك. حدوث أمر ما في مكان بعيد لا يُعفينا من الشعور بعواقب هذا الحدث المذكور. يجب علينا أن نأخذ الملاحظات من الدرس الذي علمتنا إياه الطبيعة في هذه اللحظة ونتصرف وفقًا لذلك.
المراجع
bbc.com
nationalgeographic.com
nature.com
reuters.com
scientificamerican.com
theguardian.com
weforum.org
who.int
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة «كوكب العلم»، عدد شتاء وربيع 2021.