منذ القدم وحتى عصرنا الحديث، تمثل ألوان العناصر الأربعة ورموزها الجوانب المختلفة من الطبيعة وقوى الطاقة في عالمنا. ولقد كانت فكرة أن العناصر الأربعة – الأرض، والماء، والهواء، والنار – هي أساس كل شيء بمثابة حجر الأساس في الفلسفة، والعلم، والطب لألفي عام.
يعتقد المؤرخون أن فلاسفة الإغريق القدماء قد شرعوا في صياغة النظريات القائمة على العناصر الأربعة الكلاسيكية منذ القرن الثامن قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن الإغريق ظنوا أن العناصر الأربعة لا تتغير في الطبيعة، فإنهم زعموا أن كل شيء مُكَوَّن من تلك العناصر؛ حيث تترابط أو تتباعد بفعل قوى الجذب والطرد، مما يؤدي إلى التغير الظاهري للمواد، وهو الأمر الذي يشبه ما يحدث بالفعل في المواد والجزيئات على المستوى الذري.
ولم تصف العناصر الأربعة لدى الإغريق القدامى الظواهر الفيزيائية للعالم المادي فحسب، بل وصفت أيضًا السمات الأساسية في طبيعة الإنسان. فعلى سبيل المثال، ارتبطت الأرض، والتي تتصف بالصلابة والامتداد، بالجوانب الفيزيائية والحسية للحياة؛ بينما دلت المياه التي تتصف بالانسياب والتغير الدائم على العاطفة والتعاطف. كما لم يمثل الهواء ما نتنفسه والغلاف الجوي فقط، بل أيضًا كان يمثل العقل، والذكاء، والإلهام؛ ولم تشر النار إلى الشمس والاشتعال فحسب، بل إلى العاطفة الإبداعية والحماس المدمر أيضًا.
لكن قبل أن نتعمق في المظاهر المتعددة لتشكيل العناصر الأربعة للحياة وتأثيرها عليها، إليكم القصة وراء أصل تلك العناصر.
مولد الأرض الأم
قبل أن تولد الأرض بحوالي عشرة مليارات عام، بدأ الكون بعنصرين فقط: الهيدروجين والهليوم. وهذان العنصران شكَّلا النجوم التي صهرت هذين العنصرين؛ حيث وُلِدَت أجيال من النجوم في سحب من الغازات؛ لتموت في انفجارات هائلة أنتجت العناصر الأثقل التي نجدها اليوم.
ومنذ خمسة مليارات عام تقريبًا، انفجر نجمٌ ما، دافعًا بالكثير من عناصره الثقيلة إلى سحابة من الهيدروجين والغبار بين النجمي. من ثم زادت سخونة ذلك المزيج وأصبح مضغوطًا أكثر تحت تأثير جاذبيته؛ فبدأ يتشكل في مركزه نجمٌ جديد، ومن حوله يدور قرص من نفس المواد التي ابيضت بفعل السخونة الناتجة عن القوى الضاغطة الهائلة. وقد أصبح ذلك النجم الوليد شمسنا، بينما أنجب القرص المتوهج حوله الأرض وأخواتها من الكواكب.
بينما زادت الشمس حجمًا وطاقةً، برد القرص الساخن الذي يدور حولها تدريجيًّا. الأمر الذي استغرق ملايين الأعوام؛ حيث تجمدت أثناءها مكونات القرص مُشَكِّلةً حبيبات صغيرة بحجم الغبار. خرج الحديد، ومركبات السيليكون، والمغنيسيوم، والألومينيوم، والأكسجين أولاً في تلك الظروف المشتعلة؛ حيث تتبقى قطع من تلك العناصر محفوظة في نيازك الكوندريت*. وبالتدريج تجمعت الحبيبات؛ لتشكِّل كتلاً، ثم كتلاً أكبر، وأكبر حتى شكَّلت أجسامًا كبيرة بما يكفي لكي يكون لها قوى جاذبية خاصة بها.
مع مرور الزمن، زادت تلك الأجسام حجمًا بفعل التصادم مع الأجسام الأخرى. الأمر الذي نتج عنه الكثير من الانصهار والتبخر. بدأت المواد - والتي يمكن أن نطلق عليها صخور ومعدن الحديد – في ترتيب نفسها؛ حيث استقر الحديد عالي الكثافة في المركز، بينما انفصلت الصخور الأخف مُشَكِّلةً دثارًا حول ذلك المركز مُكونةً نموذجًا مصغرًا للأرض والكواكب الداخلية الأخرى.
في وقتٍ ما، اشتعلت الشمس؛ وبالرغم من أن سطوعها حينذاك لم يتجاوز ثلثي سطوعها اليوم، فإن عملية الاشتعال كانت من الحيوية ما يكفي لدفع معظم الجزء الغازي من القرص المكون للكواكب بعيدًا. أما الكتل والكواكب المصغرة التي بقيت قريبة من الشمس فقد استمرت في التجمع؛ لتشكِّل أجسامًا كبيرة مستقرة في مدارات على مسافات مناسبة من بعض.
في مرحلةٍ مبكرة من تلك العملية، اصطدم كوكب مصغر كبير الحجم نسبيًّا بالأرض؛ الأمر الذي دفع بجزء كبير من الدثار الصخري للانتشار في الفضاء. ولقد استعاد الكوكب معظم ذلك الدثار في مرحلة لاحقة؛ إلا أن بعضًا منه قد تجمع؛ ليشكِّل كوكبًا مصغرًا آخر يدور حول الأرض، وهذا الكوكب المصغر هو القمر. ومنذ أن تصدرت تلك النظرية الساحة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت المفضلة لدى الجميع. وقد قال عالم الفيزياء الأرضية دون أندرسون: "فإن الاعتراض الوحيد المشير إلى أن مثل ذلك الحدث لهو من الندرة الشديدة هو في حد ذاته نقطة في صالح تلك النظرية؛ حيث إن القمر نادر بالفعل".
وتشير الصخور الأقدم على الأرض، والتي يظهر تأريخها باستخدام اليورانيوم والرصاص إلى أن عمرها 3.96 مليار سنة، إلى أنه كان هناك براكين، وقارات، ومحيطات، وصفائح قشرية، وحياة على الأرض في ذلك الوقت. وبينما امتلأت الدهور التالية بالأحداث الرهيبة والتغيرات الهائلة، فإن الأرض قد اتخذت شكلها الأساسي قبل ذلك بكثير.
من أين جاء الماء؟
لا يزال أصل المياه على كوكب الأرض، وهي التي تغطي 70% من سطح الكوكب، غامضًا للعلماء. ويظن العديد من الباحثين أنه عوضًا عن ظهور الماء في نفس وقت تكوُّن الأرض فإن الأجسام الموجودة في النظام الشمسي الخارجي هي التي حملت المياه إلى الأرض في اصطدامات عنيفة بعد تكوُّنها.
يتكهن الباحثون أن أية مياه تجمعت على سطح الأرض عند تكوُّنها غالبًا ما تكون قد تبخرت بفعل الشمس الشابة الملتهبة؛ أي أن المياه قد جاءت في غالب الظن من مكان آخر. ولكن الكواكب الداخلية – عطارد، والزهرة، والمريخ – كانت بالتأكيد أسخن من أن تحتوي على الماء أثناء تكوُّن النظام الشمسي؛ لذلك فإن المياه لم تأتِ إلينا منها هي الأخرى. وعلى صعيد آخر، فإن الأجرام الكوكبية الخارجية مثل أقمار المشترى والمذنبات بعيدة عن الشمس بما يكفي للاحتفاظ بالثلوج.
وفي فترة منذ قرابة الأربعة مليارات عام تسمى "القصف الثقيل المتأخر"، قامت أجرام هائلة أتت في أغلب الظن من النظام الشمسي الخارجي بقصف الأرض والكواكب الداخلية. فمن المحتمل أن تلك الأجسام كانت مملوءة بالماء، وأن تلك الاصطدامات قد أتت بمخزون عملاق من المياه؛ ليملأ الأرض.
لقد ظن علماء الفلك لفترة طويلة من الزمن أن المذنبات هي الفاعل. إلا أن القياسات عن بُعْد لتبخر الماء من عدة مذنبات رئيسية – منها مذنبات هالي، وهياكوتاكي، وهال-بوب – أوضحت أن الثلج عليها من نوع آخر من الماء يحتوي على نظير من الهيدروجين أثقل من ذلك الموجود في المياه على الأرض؛ مما يشير إلى أن تلك المذنبات لا يمكن أن تكون هي مصدر الماء على الأرض.
بشطب المذنبات من قائمة المشتبه فيهم، بدأ علماء الفلك في النظر إلى وجود أدلة على أصل الماء في حزام الكويكبات. وقد ظنوا سابقًا أن تلك المنطقة التي تحتوي على مئات الألوف من الكويكبات في مدار يقع بين الكواكب الداخلية والخارجية قريبة جدًّا من الشمس لتحتوي على الماء؛ إلا أنهم عثروا على أول الأدلة على وجود ثلج على الكويكب 24 ثيميس.
يشير ذلك الاكتشاف ومثيله من الاكتشافات على كويكبات أخرى إلى أنه قد يكون هناك المزيد من الثلج في حزام الكويكبات عمَّا كان مشكوك فيه سابقًا، وبالتالي هناك احتمال آخر لأصل مياه المحيطات على الأرض. وسوف تكشف المسبارات المرسلة لاستكشاف الكويكبات - مثل سفينة الفضاء داون - في السنوات القادمة المزيد عن غموض الثلج الموجود عليها؛ مما قد يساعدنا على فهم بدايات الماء على الأرض.
من ناحية أخرى، فقد ظهرت مؤخرًا أدلة أخرى على مجيء الماء إلى الأرض أثناء تكونها من الغبار الكوني عوضًا عن مجيئها في وقت لاحق من الكويكبات، وهي الأدلة التي كشف عنها مجموعة من العلماء الدوليين. فقد استخدمت نورا دي ليو من جامعة لندن بالمملكة المتحدة وزملاؤها حسابات على المستوى الجزيئي أثبتوا من خلالها أنه من المحتمل أن تكون تفاعلات الغازات والصلب عندما اجتمعت جزيئات الغبار المعدني أثناء تكون الأرض قد تسببت في امتصاص سطح جزيئات الغبار للماء؛ أي أنه من الممكن أن الماء كان جزءًا من الأرض منذ البداية.
المصطلحات
*نيازك الكوندريت: نيازك صخرية لم يتم تعديلها جرَّاء انصهار الجسم الأصلي أو تفاضله؛ حيث تشكلت عندما تجمعت مجموعة من الأنواع المختلفة من الغبار والحبيبات الدقيقة التي كانت موجودة في بدايات النظام الشمسي مشكِّلةً كويكبات بدائية.
المراجع
geology.about.com
lifeslittlemysteries.com
rsc.org
teachertech.rice.edu
csep10.phys.utk.edu
hearth.com