كثيرًا ما أتذكر هذا الموقف المضحك عندما كان يوسف ابن أختي لا يزال في الثالثة من عمره، ودارا بينه وبين أمه الحوار التالي حول لعبته المكسورة:
يوسف: «ماما، إيه حصل للعبية تاعتي؟».
الأم: «باظت يا حبيبي».
يوسف: «مين بيَّظها؟».
انفجر كلُّ من كان في الحجرة ضاحكًا مأخوذًا بإجابته الفطرية البريئة. وقتها استدعت ذاكرتي فورًا موضوع اكتساب اللغة الذي كنت قد درسته في الفصل الدراسي الأول لي بالجامعة؛ حيث درست اللسانيات أو علم اللغة. فما حدث ما هو إلا مثال واضح على أحد مظاهر عملية اكتساب اللغة الأولى أو اللغة الأم؛ وهي الخلط بين القواعد الصرفية لصنع مشتقات جديدة. وقبل أن أخوض في أي تفاصيل تقنية أخرى، دعونا نبدأ بداية صحيحة ونسأل: ما اكتساب اللغة الأولى؟
الاكتساب في مقابل التعلُّم
اكتساب اللغة الأولى عملية لا شعورية معقدة للغاية، ولكنها سريعة جدًّا، وهي تختلف اختلافًا جذريًّا عن عملية تعلُّم لغة ثانية. فكِّر فقط كم هو صعب على المرء أن يتقن لغة ثانية؛ فهو أمر قد يستغرق سنين عديدة ولن ترقى كفاءة المُتعلِّم اللغوية أبدًا لقدرات أبناء هذه اللغة. بصورة عامة، يتطلب إتقان أي لغة العمل على تطوير أربع مهارات: الاستماع والقراءة والكتابة والتحدُّث. إلا أن العامل المشترك بين اكتساب اللغة وتعلُّمها هو أن اكتساب المهارات الاستقبالية (الاستماع والقراءة) أو تعلمها أسهل وأسرع منه في حالة المهارات الإنتاجية (التحدث والكتابة).
وقد أشار العلماء إلى وجود استعداد فطري لدى حديثي الولادة لاكتساب اللغة. نعوم تشومسكي – عالم اللسانيات الرائد والشخصية الأكثر تأثيرًا في علم اللسانيات الحديثة – له نظرية مثيرة للاهتمام عن اكتساب اللغة. فيشير إلى وجود ما يسمى بـ«وحدة اكتساب اللغة» في العقل البشري؛ وهي وحدة افتراضية تقوم بتشفير القواعد العالمية للغة في عقل الطفل لتساعده على اكتساب اللغة.
ولكن، تحتاج هذه القدرة اللغوية الفطرية إلى بعض المتطلبات الأساسية لكي تعمل. على سبيل المثال، يجب أن يكون الطفل قادرًا جسمانيًّا على إرسال الإشارات الصوتية واستقبالها؛ أي يتمتع بجهاز سمعي وجهاز نطق صحيحين. يجب أيضًا أن تتاح له فرصة التفاعل مع مستخدمين آخرين للغة ليمدوه بأمثلة أو مدخلات لغوية. فقد أشارت دراسة أجريت في التسعينيات إلى حالة طفل كان يتمتع بسمع طبيعي ولكنه نشأ مع والدين أصمين، لذلك لم يستطع إلا اكتساب لغة الإشارة التي استخدمها الثلاثي للتفاعل بعضهم مع بعض. وعلى الرغم من أن الوالدين قد عرَّضا طفلهما للغة المنطوقة من خلال التلفزيون والراديو، فإنه عجز عن فهمها والتحدث بها.
آلية اكتساب اللغة
أثناء اكتسابهم اللغة الأم، لا يقلِّد الأطفال العبارات التي يسمعونها حولهم فحسب؛ فلم يحظَ التقليد بوصفه عملية من عمليات اكتساب اللغة بتأييد كبير بين الباحثين، بل كانت هناك أدلة عديدة ضده. يستطيع الأطفال الذين لا يقدرون على التكلم بعدُ فهمَ ما يسمعونه من الآخرين. لقد كنت مندهشة حقًّا عندما كانت طفلتي متفهمة ومستجيبة لما أقوله لها في حين إنها لم تكن وقتها قادرة بعد على التكلم. حتى بعدما يجتاز الأطفال حاجز عدم القدرة على الكلام، فإنهم لا يزالون غير قادرين على تقليد كلام الراشدين نظرًا لمعرفتهم المحدودة بالقواعد النحوية والتراكيب (طالع الأمثلة المذكورة أدناه في «مرحلة الكلام التلغرافي»).
والأخطاء غير المتوقعة التي يقع بها الأطفال تبرهن أيضًا على أنهم لا يكتسبون مخزونًا من العبارات، ولكن مجموعة من القواعد التي تساعدهم على توليد عبارات جديدة. دعونا نعود مرة أخرى إلى المثال المذكور أول المقال؛ بالطبع، لم يكن يوسف يقلِّد ما سمعه من أحد الراشدين عندما استخدم كلمة «بيَّظها». فما قام به هو اشتقاق صرفي خاطئ لصناعة صيغة جديدة من الفعل العربي العامي «باظ» وهي «بيَّظ»، وهذا قياسًا على بعض الأفعال مثل الفعل الماضي «غيَّر».
وبالمثل، عادة ما يعامل الأطفال الذين يكتسبون اللغة الإنجليزية لغة أولى الأفعال الشاذة معاملة الأفعال العادية. فبدلًا من ”held“ و”went“، يستخدمون كلمات أخرى مثل”holded“و“goed”؛ وذلك لأنهم يطبقون قاعدة إضافة اللاحقة ”ed-“ إلى الفعل لاشتقاق صيغة الماضي. ونفس الشيء ينطبق على اللاحقة «s-» المستخدمة لاشتقاق صيغة الجمع للأسماء؛ فقد نسمع الأطفال يقولون ”toothes“ بدلًا من ”teeth“، وغيرها من الأمثلة. بل قد يقوم بعض الأطفال بالخلط بين قاعدتين مختلفتين لاشتقاق كلمات مثل ”womens“ و”broked“.
أيضًا، يتجلى اكتساب القدرات الفونولوجية عندما تكون قدرات الطفل على النطق ما زالت متواضعة. قد تجدُ نطق الأطفال غير المضبوط مسليًا؛ ولكنهم في الحقيقة يقومون بعمليات فونولوجية لا شعورية معقدة. أراهن أننا جميعًا سمعنا طفلًا صغيرًا ينطق صوت الـ/ك/ بدلًا من الـ/ط/، مثلما هو الحال في «أكلع» بدلًا من «أطلع» أو ”tat“ بدلًا من ”cat“. وتنطق ابنتي ذات العامين كلمة «نمنة» بدلًا من «جبنة». تعرف هذه العملية بـ«تناغم الأصوات الصامتة»؛ حيث يقوم الطفل باستخدام أصوات صامتة يجدها أسهل نطقًا من تلك الموجودة في الكلمة، ولكنها تصدر صوتًا قريبًا من الصوت الأصلي. ومن العمليات الفونولوجية الأخرى «تبسيط الأصوات الصامتة المتتالية»؛ حيث لا ينطقون صوتًا صامتًا أو أكثر من الكلمة لتبسيطها؛ مثل: «عبية» بدلًا من «عربية» أو ”poon“ بدلًا من ”spoon“.
مراحل اكتساب اللغة
أولى مراحل اكتساب اللغة هي «إدراك الأصوات» وخلالها يستوعب الرضع الأصوات التي يسمعونها في أول شهور حياتهم. واستجابة لهذه الأصوات يبدأ الرضع توجيه رؤوسهم صوبها. بعد ذلك يبدأ الصغار في تطوير أنماط مختلفة من الصيحات يستخدمونها للتعبير عن حاجات مختلفة، كما يصبحون قادرين على إنتاج تسلسل من الأصوات المتحركة.
وبحلول الشهر الرابع من العمر، يطور الرضع القدرة على نطق الأصوات الصامتة الطبقية* ويبدأون في إنتاج أصوات أحادية المقطع مثل «جا» و«كا»، فيما يعرف بمرحلة الهديل. تبدأ المرحلة الثالثة المعروفة بـالمناغاة بين عمر الستة والثمانية أشهر. وخلالها يصبح الصغار قادرين على إنتاج عبارات متعددة المقاطع تضم أصواتًا صامتة ومتحركة، مثل «با-با-با». بعدها بوقت قصير يتعلمون نطق أصوات صامتة جديدة وإنتاج مقاطع أكثر تعقيدًا، مثل «ما-دا-جا-با». وعلى الرغم من أن هذه الأصوات ليس لها معنًى، فإن هذه «اللغة المبكرة» تمدُّ الطفل ببعض الخبرة حول الدور الاجتماعي للحديث.
بين عمر السنة والسنة ونصف، يستخدم الأطفال كلمات مفردة لطلب الأشياء أو التعبير عن مشاعرهم. في عمر العشرين شهرًا، يتعدى المخزون اللغوي للأطفال الخمسين كلمة ويبدأون في استخدام مجموعة متنوعة من العبارات المتكونة من كلمتين مثل «أكل ماما». هذا، ويعتمد تفسير الراشدين للكلمات المفردة أو العبارات المتكونة من كلمتين على سياق الحديث. على سبيل المثال، إذا قال الطفل «لعبة» (أو عبة)، فإنه إما يسمي الشيء الموضوع أمامه، وإما يقول «أنا أريد لعبة». كذلك، قد تعني عبارة «عصير ماما» إما «أمي تشرب العصير»، وإما «هذا عصير أمي».
في عمر السنتين، يستطيع الأطفال نطق ما يقرب من 300 كلمة وفهم خمسة أضعاف هذا العدد. بعد ذلك تأتي المرحلة السادسة المعروفة بـ«مرحلة الكلام التلغرافي» في عمر السنتين ونصف السنة. تظهر في هذه المرحلة قدرات تركيبية متواضعة؛ حيث يطور الطفل مهارة تركيب الجمل. ومن ثَمَّ يبدأ في بناء عبارات تتكون من كلمات ذات دلالة (الأسماء والأفعال والصفات، وغيرها) ولا تضم الكلمات الوظيفية (أدوات التعريف وحروف الجر، وغيرها). من أمثلة «الكلام التلغرافي»: «نونو يلعب جنينة» و«بابا راح باي عبية».
وأخيرًا، في عمر الثلاث سنوات، تنمو حصيلة المفردات لتضم المئات، وتتقدم القدرات النحوية والتركيبية، ويصبح النطق أقرب لنطق الراشدين. بصفة عامة، تتطور اللغة عند الأطفال وفقًا لنفس الجدول الزمني تقريبًا الذي يرتبط بنضج المخ؛ ولكن اختلاف الحالات وارد دائمًا.
لا شك في أن مَلكة البشر اللغوية هبة عظيمة من الخالق؛ فهي أكثر نظم التواصل تعقيدًا عبر الزمن بلا تنافس. تعتمد عملية اكتساب اللغة على آليات إدراكية وحيوية فائقة التعقيد طالما حيرت المفكرين وعلماء اللغة. وعلى الرغم من التنوع اللغوي الجلي عبر الزمان والمكان، فإن هذه القدرة الإنسانية العظيمة على استخدام اللغة قدرة عالمية يتشاركها الجميع.
*الأصوات الصامتة الطبقية هي الأصوات التي تنطق نتيجة اتصال الجزء الخلفي للسان مع الطبق (سقف الفم اللين).
المراجع
ielanguages.com
birmingham.ac.uk
intropsych.com
George Yule, 2006, The Study of Language, Cambridge, UK: Cambridge University Press.
*هذا المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد خريف 2017.