أن تنتج هوليود قصة أسطورية يونانية مرتين دليل على ثراء هذه القصة وأحداثها، وتنوع وتباين شخصياتها والدراما التي وراء تفاصيلها. وأعني بتلك القصة حكاية أو أسطورة الأميرة «أندروميدا» في الميثولوجيا اليونانية، والتي يتذكرها أي فلكي، أو هاوٍ للفلك، أو محب لرصد السماء عندما ينظر إلى «مجموعة نجوم أندروميدا». وهي مجموعة نجمية شديدة الوضوح، ويسهل جدًّا تعرُّفها. وتحتوي على أقرب المجرات إلينا، التي تحمل الاسم نفسه «مجرة أندروميدا».
عفوًا عزيزي القارئ، فقد وجدت نفسي مسترسلًا عن «نجوم أندروميدا» و«مجرة أندروميدا» دون أن أوضح لك عنوان الفيلمين ولا ملمح القصة. الفيلم هو Clash of the Titans «صراع الجبابرة»، وقد أُنتج بالعنوان نفسه مرة عام 1981، وأدت فيه دور «أندروميدا» الممثلة الجميلة جودي بوكر، ومرة أخرى عام 2010، ومثلت فيه دور «أندروميدا» الممثلة المتمرسة أليكسا دافالوس. وأدعوك عزيزي القارئ إلى مشاهدة الفيلم بنسختيه، وستجد فيهما متعة ذهنية وفنية كبيرة أنت وأفراد أسرتك.
أبطال قصة الفيلم أو الأسطورة هم: الملكة «كاسيوبيا»، والابنة الأميرة «أندروميدا»، والأمير «بيرسيوس» بن «زيوس» كبير الآلهة، من امرأة فانية تدعى «داناي». وتبدأ الحكاية بنبوءة أحد العرافين بأن «داناي» ستلد غلامًا يقتل أباها الفاني الملك «أكريسيوس»؛ فيحبس الأب ابنته في سجن معزول لا ترى أحدًا ولا أحد يراها. وفي حبسها الذي طال مدة من الزمن، يتسلل إليها «زيوس» في هيئة رجل ويتزوجها، وتنجب في محبسها الطفل «بيرسيوس». ولا تمضي إلا شهور قصيرة، ويعلم الملك أن النبوءة قد تحققت. ودون التحقيق في أمر الزواج والولادة، يقرر الملك التخلص من الطفل وأمه، فيضعهما في صندوق ويُلقي به في عرض البحر الكبير.
في القصة نجد أن أمواج البحر تأخذ الصندوق إلى جزيرة بعيدة يحكمها ملك يدعى «بوليديكتيس». ويكبر الطفل ليصبح فارسًا ومقاتلًا ماهرًا. ومن ناحية أخرى وعلى الجزيرة نفسها، كانت الملكة «كاسيوبيا» مغرورة بجمال ابنتها الفاتنة «أندروميدا»، وتتطاول وتتفاخر بجمالها وحسنها على كل نساء الأرض حتى على حوريات البحر. ولهذا، ما كان من ابنة إله البحر «بوسايدون» إلا أن تطلب الانتقام من غرور وتطاول «كاسيوبيا»، وأن يسلط عليها وعلى مملكتها وحش الماء ليدمرها هي ومملكتها وأهلها.
ينصح العرافون «كاسيوبيا» وزوجها بتقديم ابنتهما «أندروميدا» قربانًا لوحش الماء؛ فداءً للمملكة وأهلها. وظلمًا يقبل الملك والملكة التضحية بالبريئة والجميلة «أندروميدا»؛ فيقيدونها على صخرة، تاركين إياها لوحش الماء ليلتهمها. وعلم بتلك الفاجعة الأمير «بيرسيوس» الذي كان يطمع في الزواج بـ«أندروميدا»، ونال الوعد بإتمام الزواج في حال نجاحه في إنقاذ «أندروميدا» من هذه الورطة. وتسري أحداث الفيلم ببطلنا بعدما يعلم أنه لا سبيل لتخليص «أندروميدا» من وحش الماء إلا بأن يأتي برأس «الميدوسا» التي يمكنها هي فقط القضاء على وحش الماء.
و«الميدوسا» كانت امرأة فاتنة حل عليها غضب الآلهة. ولتمنع عنها الرجال وتحرمها من الزواج، حولتها إلى وحش تنمو في رأسه الأفاعي السامة، ومن تنظر «الميدوسا» في عينيه، يتحول إلى صنم وتمثال من الحجر. وأي عقاب هذا «للميدوسا»! يصل «بيرسيوس» بعد تفاصيل مثيرة في القصة والأسطورة إلى مكان «الميدوسا»، وبمساعدة الآلهة والحيلة والذكاء نرى الإثارة متجسدة على شاشة السينما في حصول «بيرسيوس» على رأس «الميدوسا» دون أن تقع عيناه في عينيها. وفي لحظات يكتم فيها المشاهد أنفاسه، يتصدى البطل لوحش الماء ويظهر له رأس «الميدوسا»؛ فيتحول على الفور إلى تمثال صخري يتحطم قبل الفتك ببطلتنا البريئة «أندروميدا»، التي كانت ستضيع ظلمًا دون ارتكاب أي ذنب بسبب غرور أمها «كاسيوبيا» وصلفها وأنانيتها.
القصة على بساطتها وروح المغامرة فيها، لا تمل من متابعتها والاستمتاع بتفاصيلها، وتفرح في نهايتها بنجاة «أندروميدا» وتود لو كنت تشارك «بيرسيوس» في رحلته للحصول على رأس «الميدوسا»، وإنقاذ محبوبته البريئة من ظلم وقع عليها؛ ثم تنتهي براحة نفسية وأنت تبتسم من انتصار الحب والخير على الشر في النهاية. وقد مجدت الآلهة أبطال القصة على شكل مجموعات نجمية في جهة الشمال؛ فتجد مجموعة النجوم «كاسيوبيا»، ومجموعة النجوم «بيرسيوس» في جهة الشمال ضمن المجموعات التي نطلق عليها نحن الفلكيين اسم «النجوم أبدية الظهور»؛ وهي نجوم تدور دائمًا حول النجم القطبي، ونراها طوال العام؛ دلالة على استمرار الصراع بين معنى الخير ومعنى الشر.
معلومة فلكية أخيرة عن هذه المجموعات النجمية: سترى صور هذه النجوم معبرة جدًّا عما جاء في الأسطورة؛ فستجد «كاسيوبيا» على هيئة ملكة جالسة على كرسي العرش، وتجد «أندروميدا» امرأة مقيدة بالسلاسل من يديها ورجليها، وتجد «بيرسيوس» ممسكًا سيفًا بيد، وباليد الأخرى رأس «الميدوسا».
هذا المقال منشور في مجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2020.
Top image: Constellations – Andromeda by Csaba Gyulai. Credits: dribbble.com